سورة الكهف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)} [الكهف: 18/ 23- 24].
وفيها أحيانا أخرى توجيه منهجي للمستقبل، وهو الأمر باتباع القرآن والتزام آدابه وأحكامه، وهو قوله سبحانه: {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ} الآية.
أي اتبع أيها النبي في جميع أعمالك منهج الوحي الإلهي، واسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك، واعمل بكل ما جاء فيه من أمر ونهي، فإنه لا نقص في قول ربك، ولا مبدل ولا مغير لكلمات الله وأحكامه، من وعد الطائعين ووعيد العصاة، وليس لك سوى الله جانب تميل إليه وتستند، فإن لم تعمل بأمر الله، وقعت في الوعيد، ولن تجد بعدئذ ملجأ أو جانبا يمال إليه، ويستعان به في المؤازرة أو المناصرة على شؤون الحياة. فالتوجيه الأول: تلاوة القرآن والعمل بمقتضاه.
ثم أمر الله نبيه بمداومة مجالسة الفقراء والمساكين، والصبر على إرشادهم وتعليمهم وتوجيههم، وسبب نزول هذه الآية: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} هو أن عظماء الكفار من أهل مكة جاؤوا، فقالوا لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: لو أبعدت هؤلاء الفقراء والضعفاء عن نفسك، لجالسناك وصحبناك، يريدون: عمار ابن ياسر، وصهيب بن سنان، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم من الفقراء كبلال الحبشي ونحوه، وقالوا: إن ريح جبابهم (أثوابهم الواسعة أو السابغة) تؤذينا، فنزلت الآية بسبب ذلك.
وروي أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم خرج إلى هؤلاء المستضعفين، وجلس بينهم، وقال: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه».
وروي أنه قال لهم: «مرحبا بالذين عاتبني فيهم ربي».
ومعنى الآية التي صفّيت فيها الامتيازات العربية بين الزعماء والأتباع هو: جالس أيها الرسول الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه، ويكبّرونه، ويسألونه ويدعونه في الغداة (صباحا) وفي العشي (مساء) أي دوام على مجالستهم في كل وقت، سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، إنهم يريدون وجه الله، أي طاعته ورضاه.
ولا تجاوز بصرك ونفسك إلى غيرهم، فتطلب بدلهم أصحاب الثروة والنفوذ، وأبناء الدنيا والملابس من الكفار، والقصد: النهي عن احتقارهم لسوء حالهم وفقرهم. وإياك أن تطيع من وجدناه غافلا، وشغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، وكان مسرفا مفرطا في أعماله غاية الإسراف والتفريط، متبعا شهواته، وهذا يشير إلى أن سبب البعد عنهم التعاظم عن اتباع أمر الله بمفاتن الدنيا وزينتها، هذا هو التوجيه الثاني.
ومفاده إعلان القرار الحاسم بأن المساواة الفعلية بين الناس، أغنيائهم وفقرائهم، وسادتهم وأتباعهم، وحكامهم ومحكوميهم، هو منهج الإسلام ومبدؤه الذي لا يقبل المساومة أو المفاوضة في التنازل عن شيء منه. فإن الأوصاف الطارئة من غنى وثراء، وزعامة ونفوذ، وتفوق وإعجاب، لا يصح ولا يقبل أن تكون سببا للتفرقة بين الناس جميعا، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى أو بعمل صالح.
إعلان منهج الحق القرآني:
ركّز القرآن الكريم على تبيان الصفة البارزة الناصعة لرسالة الإسلام، وهي أنه دين الحق الثابت، وطريق الحق الذي لا محيد عنه، وجوهر الحق الذي لا خلاف فيه، فإذا اختلف الناس في توصيف الأشياء، وجدوا الصواب والسداد في آي القرآن الكريم وأحكامه، وإذا ابتغوا السلامة والنجاة والسعادة، لم يجدوها في غير التزام العمل الصالح والإيمان الكامل. والسعادة الحقة: هي المؤدية للخلود الأبدي في نعيم الجنان، والتفيؤ بظلال الرحمن، والحظوة من الله بنعمة الرضوان، قال الله تعالى:


{وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)} [الكهف: 18/ 27- 28].
في سورة الكهف جملة من التوجيهات الإلهية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيها عتاب أحيانا مثل:


{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)} [الكهف: 18/ 29- 31].
هذا توجيه ثالث في سورة الكهف للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ومفاده: قل أيها النبي: هذا الذي جئتكم به من ربكم وهو القرآن، هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، وهو النظام الأصلح للحياة، فمن شاء آمن به، ومن شاء كفر به، فأنا في غنى عنكم، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم يحاسبكم ربكم على أعمالكم. وفي هذا تهديد ووعيد.
ونوع الوعيد المهدد به: هو ما أخبر الله عنه بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً} أي إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بالله ورسوله وكتابه نار جهنم الذي أحاط بهم سورها أو جدارها من كل جانب، حتى لا يجدوا مخلصا منها.
وإن يطلب هؤلاء الظالمون المعذبون في النار إغاثة ومددا وماء، لإطفاء عطشهم، بسبب حرّ جهنم، يغاثوا بماء غليظ كثيف كعكر الزيت أو كالدم والقيح، يشوي جلود الوجوه من شدة حره، بئس هذا الشراب شرابهم، فما أقبحه، فهو لا يزيل عطشا، ولا يسكّن حرا، بل يزيد فيها، وساءت جهنم مرتفقا، أي متكأ وموضعا للانتفاع. وجاء وصف سرادق النار في آية أخرى هي: {انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)} [المرسلات: 77/ 30- 33].
وقوله سبحانه: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} توعد وتهديد، وليس على سبيل التخيير بين متساويين، والمراد: فليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غدا عند الله عز وجل.
وأما جزاء أهل السعادة والإيمان فهو الجنة، إن الذين آمنوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبجميع المرسلين في كل ما جاؤوا به، وعملوا الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، فلا يضيع الله أجرهم على إحسانهم العمل. والجمع بين الإيمان والعمل الصالح دليل على أنه لا يصح أحدهما دون الآخر.
وأوصاف نعيم المؤمنين العاملين أربعة:
الأول- أن لهم جنات إقامة دائمة، تجري فيها الأنهار من تحت غرفهم ومنازلهم.
الثاني- يلبسون في الجنان حلية فيها أساور من ذهب.
والثالث- ويلبسون أيضا ثيابا خضراء من السندس: وهو رقيق الحرير، والإستبرق: وهو غليظ الديباج، أو الحرير المنسوج بالذهب، والحرير الأخضر ترتاح العين عند إبصاره.
والرابع- وهم متكئون في الجنان على الأرائك، أي الأسرة، شأنهم شأن الملوك والعظماء، وأصحاب السعادة الحقيقية.
ومن حظي بهذه الألوان من النعيم، كان حقا محل اغتباط وسرور، لذا قال الله تعالى: {نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم، وحسنت منزلا ومقرا ومقاما، كما في آية أخرى: {خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76)} [الفرقان: 25/ 76].
وحكى مكي والزهراوي وغيرهما حديثا مفاده أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} الآية، نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم.
سأل أعرابي رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم عن الآية، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للأعرابي: «أعلم قومك أنها نزلت في هؤلاء الأربعة» وهم حضور.
قصة صاحب الجنتين:
في القرآن الكريم أمثلة واقعية حسية ذات تأثير بالغ، وعبرة عظيمة، قصد بإيرادها تصوير المواقف، وتثبيت الإيمان أو غرسه، واستئصال الكفر وآثاره، والرد على الطائفة المتحيرة من كفار مكة الذين أرادوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يطرد فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي على الدوام، والتنويه بأهل الإيمان المقرين بالربوبية أمثال بلال وعمار وصهيب وأقرانهم. ومن هذه الأمثلة: قصة رجل جاحد كان له جنتان (أي بستانان) فافتتن بجمالهما، وأنكر البعث والآخرة، قال الله تعالى واصفا حال هذا الرجل:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8